الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
هنا يقف أصحاب الفساد- وتكون نفوسهم أمّارة بالسوء- موقفًا ينافقون به القوة الطارئة الجديدة، بينما تظل نفوسهم أمّارة بالسوء- موقفًا ينافقون به القوة الطارئة الجديدة، بينما تظل نفوسهم أمّارة بالسوء، فتظهر ظاهرة النفاق.وقول الحق: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة} أي أنكم مطوقون في ذاتكم ومن حولكم، فالنفاق في ذات المكان الذي تقيمون فيه، وفيما حولكم أيضًا.وأخشى ما يخشاه الإنسان، أن يوجد الأمر الضار حوله وفيه؛ لأنه إن كان الأمر الضار في المكان الذي يعيش فيه، فمن حوله يستطيعون إنقاذه أو يستطيع هو أن يهجر المكان، لكن إذا كان محاصرًا بالضرر ممن حوله ومن المكان الذي يحيا فيه، فإلى أين يذهب؟ويريد سبحانه أن ينبه المؤمنين إلى أن ظاهرة النفاق متفشية؛ منها ما تستطيعون- أيها المؤمنون- معرفته بمعرفة حركات المنافقين وسكناتهم ولحن قولهم وتصرفاتهم، ومنها أمر دقيق خفي لا تعلمونه، ولكنه سبحانه يعلمه؛ ولأنكم غير مسلمين لأنفسكم، ولكم رب يعلمكم ما لا تعلمون فاطمئنوا؛ فسوف يفضحهم لكم.ونتيجة هذا العلم أنكم سترون فيهم العقوبات؛ فيأتي فيهم القول الحق: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ}.هم إذن سيعذبون مرتين في الدنيا، ثم يردون لعذاب الآخرة، وأول عذاب لمن يستر نفاقه أن يفضح نفاقه؛ ولذلك خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قم يا فلان فأنت منافق، قم يا فلان فأنت منافق، قم يا فلان فأنت منافق».أو تأتي له مصائب الدنيا. ولقائل أن يقول: وهل المصائب عذاب للمنافق، إن المصائب قد تصيب المؤمن أيضًا؟ونرد: إن المصائب تاتي للمؤمن لإفادته، ولكنها تأتي للمنافق لإبادته. فالمؤمن حين يصاب؛ إما أن يكفر الله به عنه ذنبًا؛ وإما أن يرفعه درجة به لكن المصائب حين تصيب المنافق فهي مغرم فقط؛ لأن المنافق لا يرجو الآخرة؛ ولذلك يقال:إن المصاب ليس من أصيب فيما يجب، ولكن المصاب هو من حرم الثواب.فإن استقبل المؤمن المصيبة بالرضا، وعلم أن الذي أجراها عليه حكيم، ولا يجري عليه إلا ما يعلم الخير وإن لم يعلمه؛ فهو ينال الثواب على الصبر والأجر على الرضا، وهكذا يخرج من دائرة الألم العنيف. أما غير المؤمن فهو يتمرد على القدر، وبعدم إيمانه يُحْرَم من الثواب.أو أن العذاب مرتين، وغير الفضيحة بنفاقهم، فيتمثل في محاولتهم أن يظهروا بمظهر الإيمان والإسلام، فيخرج الواحد منهم الزكاة من ماله، والمال محبب للنفس؛ لذلك فهو يخرج الزكاة مرغمًا؛ ويشعر أنه قد خسر المال لأنه لا يؤمن بإله؛ لذلك فمصيبته كبيرة. وقد يرسل المنافق ابنه للحرب وهو يعلم أنه ليس له في ذلك ثواب، وهذا لون آخر من العذاب.وهذا العذاب متحقق بقول الحق: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا...} [التوبة: 85].أو أن يكون العذاب في الدنيا هو ما يرونه حين تغرغر النفس، لحظة أن تبلغ الروح الحلقوم، ويرى المُغَرْغِر الملائكة مصداقًا لقول الحق: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الأنفال: 50].وكل هذه ألوان من العذاب في الدنيا.والإنسان- كما نعلم- في استقبال الزمن له ثلاث حالات: زمن هو حياته الدنيا، وزمن هو زمن موته، وزمن هو زمن آخرته. فحين يصاب المؤمن في الزمن الأول- زمن حياته- يُعزِّيه في مصابه الزمنُ الأخير، وهو زمن آخرته.أما حين يصاب الكافر أو المنافق في زمن حياته، فلا شيء يعزيه أبدًا؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا هو يطمع في شيء من خيره سبحانه.ويأتيه الزمن الثاني، وهو زمن الموت، وفيه عذاب القبر.والعذاب إنما يكون بأحد اثنين: إما عرض ما يعذب به، أو دخول فيما يعذب به، وهذا يكون في الآخرة. أما عرض العذاب فهو القبر كأنه يقول لك: انظر ما ينتظرك. وما دام الإنسان يرى الشر الذي ينتظره، أليس هذا عذابًا؟إنه عذاب مؤكد.{سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} ولو قال الحق: نعذبهم مرتين فقط بدون السين، لصار لها معنى آخر مختلف تمامًا. يتلخص في أن من يصيبه عذاب، فقد انتهى حسابه. لكن قوله: {سَنُعَذِّبُهُم} يؤكد لنا كلما قرأناه أن العذاب متصل.ويُنهي الحق الآية الكريمة بقوله: {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} وكلمة {يُرَدُّونَ} مثلها مثل {يُرْجعون} أو {يَرْجعون} ونحن نقول مرة: {يُرْجعون} وأخرى {يَرْجعون}، فكأن النفس البشرية تألف جزاءها في قولنا: {يَرْجعون}، أما قولنا: {يُرْجعون} ففي الكلمة قوة عليا تدفعهم ألا يتقاعسوا.وهكذا نجد المعذَّب إما مدفوع بقوة عُليا، وإما أن توجد فيه بقوة ذاتية تجعله يذهب إلى العذاب. والإنسان قد يتصرف تصرفًا ما، ثم يرد إلى أفكاره فلا يعجبه هذا التصرف، ويستقبل نفسه بالتوبيخ وبالتعنيف؛ لأن هناك إلحاحًا من النفس على العقوبة، وهو إلحاح يأتي من ذات النفس.والنفس الأمارة بالسوء قد تقضي حياتك معها في أمر بالسوء، ثم حين يأتي العقاب فأنت تقول لها: اشربي أيتها النفس نتيجة ما فعلت.إذن فالمعذَّب يُدفع مرة للعذاب، وأخرى يندفع بذاته.{ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} ومثلما قلنا من قبل: فإن هناك ألوانًا متعددة من العذاب، فهناك العذاب العظيم، والأليم، والمهين، والمقيم. والعذاب العظيم يأتي إما بأسباب وإما بمسبِّب، وعذاب الدنيا كله بأسباب، فقد يكون العذاب بالعصا، أو بالكرباج، أو بالإهانة، والأسباب تختلف قوة وضعفًا، أما عذاب الآخرة فهو بمسبِّب، والمعذِّب في الآخرة واحد وقوته لا نهاية لها، وإن قسْتَ عذاب الآخرة بالعذاب في الدنيا فمن المؤكد أن عذاب الآخرة عذاب عَظيم. اهـ.
قال الشيخ: إن عنى في مطلق حذف الموصوف فَحَسَنٌ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأن حَذْفِ الموصوف مع {مِنْ} مطردٌ، وقوله: أنا ابن جلا ضرورة كقوله: قلت: البيتُ المشار إليه هو قوله: وللنحاةِ في هذا البيت تأويلات، أحدها: ما تقدم. والآخر: أن هذه الجملة محكية لأنها قد سُمِّي بها هذا الرجل، فإنَّ جلا فيه ضمير فاعل، ثم سُمِّيَ بها وحُكِيَتْ كما قالوا: شاب قَرْناها وذرى حَبَّا وقوله: والثالث: وهو مذهب عيسى بن عمر أنه فعلٌ فارغ من الضمير، وإنما لم يُنَوَّنْ لأنه عنده غيرُ منصرفٍ فإنه يُمْنع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي بضرب وقتل مَنَعَهما. أمَّا مجردُ الوزنِ من غير نقلٍ مِنْ فعل فلا يُمنع به البتةَ نحو جَمَل وجَبَل.و{مَرَدوا} أي: مَهَروا وتمرَّنوا. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في النساء عند قوله: {شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [الآية: 117].قوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضًا صفة لـ {منافقون} ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكونَ على بابه فيتعدَّى لاثنين أي: لا نعلمهم منافقين، فحذف الثاني للدلالة عليه بتقدُّم ذِكْرِ المنافقين، ولأن النافقَ من صفات القلب لا يُطَّلع عليه. وأن تكون العِرْفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبو البقاء. وأمَّا {نحن نعلمهم} فلا يجوز أن تكون إلا على بابها لبحثٍ ذكرتُه لك في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذورٌ لِما عرفته.وقوله: {مَّرَّتَيْنِ} قد تقدَّم الكلام في نصب مرة وأنه من وجهين: إمَّا المصدريةِ وإمَّا الظرفيةِ فكذلك هذا. وهذه التثنية يحتمل أن يكون المرادُ بها شَفْعَ الواحد وعليه الأكثر، واختلفوا في تفسيرهما، وأن لا يراد بها التثنية الحقيقية بل يُراد بها التكثيرُ كقوله تعالى: {فارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أي: كَرَّاتٍ، بدليل قوله: {ينقلبْ إليك البصرْ خاسئًا وهو حسير} أي مزدجرًا وهو كليلٌ، ولا يصيبُه ذلك إلا بعد كَرَّات، ومثلُه. لَبَّيْك وسَعْدَيْك وحنانَيْكَ.وروى عباس عن أبي عمرو: {سنعذِّبْهم} بسكون الباء وهو على عادته في تخفيفِ توالي الحركات كينصركم وبابه وإن كان باب ينصركم أحسنَ تسكينًا لكونِ الراءِ حرفَ تكرار، فكأنه توالي ضمَّتان بخلاف غيره. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقال الشيخ: وفي مصحفِ أنس: {سيعذبهم} بالياء.وقد تقدم أن المصاحف كانت مهملةً من النَّقْط والضبط بالشكل فكيف يُقال هذا؟. اهـ.
|